فصل: إغارةٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إغارةٌ

التعريف

1 - الإغارة لغةً‏:‏ الهجوم على القوم بغتةً والإيقاع بهم‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك‏.‏ ويرادفه الهجوم‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

2 - الأصل أنّه لا تجوز الإغارة على العدوّ الكافر ابتداءً قبل عرض الإسلام عليهم‏.‏ وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الجهاد، كما لا تجوز الإغارة على البغاة حتّى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصّواب‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ بسطه الفقهاء في كتاب البغاة‏.‏

وإذا أمر القائد سريّةً من الجيش بالإغارة على العدوّ، فما غنمته هذه السّريّة شاركها الجيش في هذه الغنيمة‏.‏ وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الغنيمة من كتب الفقه‏.‏

اغترارٌ

انظر‏:‏ تغريرٌ‏.‏

اغتسالٌ

انظر‏:‏ غسلٌ‏.‏

اغتيالٌ

انظر‏:‏ غيلةٌ‏.‏

إغراءٌ

التعريف

1 - الإغراء مصدر أغرى، وأغرى بالشّيء‏:‏ أولع به، يقال‏:‏ أغريت الكلب بالصّيد، وأغريت بينهم العداوة‏.‏ ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - التّحريض هو‏:‏ الحثّ على الشّيء والإحماء عليه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّبيّ حرّض المؤمنين على القتال‏}‏‏.‏

فالتّحريض لا بدّ له من باعثٍ خارجيٍّ، أمّا الإغراء فقد يكون الباعث ذاتيّاً‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - يختلف حكم الإغراء باختلاف أحواله‏:‏

فالإغراء بالوسيلة الحلال للفعل الحلال جائزٌ، كإغراء المطلّقة الرّجعيّة زوجها بالتّزيّن له، وتفصيله في ‏(‏الطّلاق والرّجعة‏)‏ وإغراء الكلب بالصّيد، وتفصيله في ‏(‏الصّيد‏)‏‏.‏

وقد يكون واجباً كإغراء الأب ابنه بحفظ ما يقيم به صلاته من القرآن، وقد يكون حراماً مثل إغراء المرأة الرّجل الأجنبيّ بالتّزيّن له، أو الخضوع بالقول لغير الزّوج، وكذلك عكسه‏.‏

إغلاقٌ

التعريف

1 - الإغلاق لغةً‏:‏ مصدر أغلق‏.‏ يقال‏:‏ أغلق الباب، وأغلقه على شيءٍ‏:‏ أكرهه عليه، ومنه سمّي الغضب إغلاقاً‏.‏ وذكر الزّمخشريّ في أساس البلاغة‏:‏ أنّ من المجاز إطلاق الإغلاق على الإكراه‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - الفقهاء يجعلون إغلاق الأبواب والنّوافذ ممّا تتحقّق به الخلوة كإرخاء السّتور‏.‏ لما روى زرارة بن أوفى قال‏:‏ قضى الخلفاء الرّاشدون المهديّون أنّ من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب عليه المهر‏.‏ ويبحث الفقهاء ذلك في كتاب النّكاح، عند كلامهم على المهر، وهل هو مستحقٌّ كلّه بالخلوة الصّحيحة ‏؟‏

3 - وورد في السّنّة ما يمنع الأمير من إغلاق بابه دون حاجات النّاس‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من إمامٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلّة والمسكنة إلاّ أغلق اللّه أبواب السّماء دون خلّته وحاجته ومسكنته» وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يرسل من يخلع أبواب الأمراء ويحرّقها، لئلاّ يمنع ذو الحاجة من الدّخول عليهم‏.‏

4 - وورد في السّنّة أيضاً ما يوجب إغلاق الأبواب ليلاً، ففي صحيح مسلمٍ من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «غطّوا الإناء، وأوكئوا السّقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السّرج، فإنّ الشّيطان لا يحلّ سقاءً، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناءً»‏.‏

5 - ويطلق الفقهاء الإغلاق على احتباس الكلام عند المتكلّم، فيقولون‏:‏ إن أغلق على الإمام - أي ارتجّ عليه فلم يتكلّم - في القراءة في الصّلاة، ركع إن كان قد قرأ القدر المستحبّ، وهو الظّاهر عند الحنفيّة، وقيل قدر الفرض‏.‏، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة عند كلامهم على الفتح على الإمام‏.‏

وإن أغلق على الخطيب في الخطبة، اقتصر على ذكر اللّه ونزل، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة عند كلامهم على خطبة الجمعة‏.‏

6 - وورد في السّنّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا طلاق ولا عتاق في إغلاقٍ» وبناءً على هذا الحديث اختلف الفقهاء في حكم طلاق المكره والسّكران والغضبان ‏(‏الّذي فقد سيطرته على نفسه‏)‏ ونحوهم، فأوقع بعضهم طلاق هؤلاء، ولم يوقعه بعضهم الآخر، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الطّلاق، وذكره شرّاح الحديث في شرح هذا الحديث الشّريف‏.‏

إغماءٌ

التعريف

1 - الإغماء‏:‏ مصدر ‏(‏أغمي على الرّجل‏)‏ مبنيٌّ للمفعول، والإغماء مرضٌ يزيل القوى ويستر العقل، وقيل‏:‏ فتورٌ عارضٌ لا بمخدّرٍ يزيل عمل القوى‏.‏

ولا يخرج التعريف الاصطلاحيّ عن هذا‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّوم

2 - عرّف الجرجانيّ النّوم بأنّه‏:‏ حالةٌ طبيعيّةٌ تتعطّل معها القوى مع سلامتها‏.‏

فبينه وبين الإغماء اشتراكٌ واختلافٌ في تعطّل القوى، ويختلفان في أنّ الإغماء من المرض، والنّوم مع السّلامة‏.‏

ب - العته

3 - العته‏:‏ علّةٌ ناشئةٌ عن الذّات، توجب خللاً في العقل، فيصير صاحبه مختلط العقل، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين، فالفرق بينه وبين الإغماء‏:‏ أنّ الإغماء مؤقّتٌ، والعته مستمرٌّ غالباً، والإغماء يزيل القوى كلّها، والعته يضعف القوى المدركة‏.‏

ج - الجنون

4 - الجنون‏:‏ مرضٌ يزيل العقل، ويزيد القوى غالباً، والفرق بينه وبين الإغماء أنّ الجنون يسلب العقل بخلاف الإغماء فإنّه يجعل من وقع به مغلوباً لا مسلوب العقل‏.‏

وهناك ألفاظٌ أخرى ذات صلةٍ بالإغماء، كالسّكر والصّرع والغشي، تنظر في مواطنها من أصول الفقه عند الكلام على عوارض الأهليّة، ويتكلّم عنها الفقهاء في نواقض الوضوء والجنايات، والطّلاق والبيع ونحوه من العقود‏.‏

أثر الإغماء في الأهليّة

5 - الإغماء لا يؤثّر في أهليّة الوجوب لأنّ مناطها الإنسانيّة، أمّا أهليّة الأداء فإنّه ينافيها، لأنّ مدارها العقل، وهو مغلوبٌ على عقله، وتفصيله في الملحق الأصوليّ‏.‏

أثر الإغماء في العبادات البدنيّة

أ - في الوضوء والتّيمّم ‏:‏

6 - أجمع الفقهاء على أنّ الإغماء ناقضٌ للوضوء قياساً على النّوم، بل هو أولى، لأنّ النّائم إذا أوقظ استيقظ بخلاف المغمى عليه‏.‏

ونصّ الفقهاء على أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التّيمّم‏.‏

ب - أثر الإغماء في سقوط الصّلاة‏:‏

7 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة، وهو قولٌ عند الحنابلة، إلى أنّ المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصّلاة إلاّ أن يفيق في جزءٍ من وقتها، مستدلّين بأنّ أمّ المؤمنين «عائشة رضي الله عنها سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يغمى عليه فيترك الصّلاة، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس من ذلك قضاءٌ، إلاّ أن يغمى عليه فيفيق في وقتها فيصلّيها»‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ إن أغمي عليه خمس صلواتٍ قضاها، وإن زادت سقط فرض القضاء في الكلّ، لأنّ ذلك يدخل في التّكرار فأسقط القضاء كالجنون، وقال محمّدٌ‏:‏ يسقط القضاء إذا صارت الصّلوات ستّاً ودخل في السّابعة، لأنّ ذلك هو الّذي يحصل به التّكرار‏.‏ لكنّ أبا حنيفة وأبا يوسف أقاما الوقت مقام الصّلوات تيسيراً فتعتبر الزّيادة بالسّاعات‏.‏

وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى أنّ المغمى عليه يقضي جميع الصّلوات الّتي كانت في حال إغمائه، مستدلّين بما روي أنّ عمّاراً غشي عليه أيّاماً لا يصلّي، ثمّ استفاق بعد ثلاثٍ، فقال ‏(‏أي عمّارٌ‏)‏‏:‏ هل صلّيت ‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما صلّيت منذ ثلاثٍ، فقال‏:‏ أعطوني وضوءاً فتوضّأ ثمّ صلّى تلك اللّيلة‏.‏ وروى أبو مجلزٍ أنّ سمرة بن جندبٍ قال‏:‏ المغمى عليه يترك الصّلاة يصلّي مع كلّ صلاةٍ صلاةً مثلها قال‏:‏ قال عمران‏:‏ زعم، ولكن ليصلّهنّ جميعاً، وروى الأثرم هذين الحديثين في سننه وهذا فعل الصّحابة وقولهم، ولا يعرف لهم مخالفٌ فكان إجماعاً‏.‏ ولأنّ الإغماء لا يسقط فرض الصّيام، ولا يؤثّر في استحقاق الولاية على المغمى عليه فأشبه النّوم‏.‏

ج - أثر الإغماء في الصّيام‏:‏

8 - أجمع الفقهاء على أنّ الإغماء لا يسقط قضاء الصّيام، فلو أغمي على شخصٍ جميع الشّهر، ثمّ أفاق بعد مضيّه يلزمه القضاء إن تحقّق ذلك، وهو نادرٌ والنّادر لا حكم له، إلاّ عند الحسن البصريّ فإنّه يقول‏:‏ سبب وجوب الأداء لم يتحقّق في حقّه لزوال عقله بالإغماء، ووجوب القضاء يبتني على وجوب الأداء‏.‏

واستدلّ فقهاء المذاهب بأنّ الإغماء عذرٌ في تأخير الصّوم إلى زواله لا في إسقاطه، لأنّ سقوطه يكون بزوال الأهليّة أو بالحرج، ولا تزول الأهليّة به ولا يتحقّق الحرج به، لأنّ الحرج إنّما يتحقّق فيما يكثر وجوده، وامتداده في حقّ الصّوم نادرٌ، لأنّه مانعٌ من الأكل والشّرب‏.‏ وحياة الإنسان شهراً بدون الأكل والشّرب لا يتحقّق إلاّ نادراً فلا يصلح لبناء الحكم عليه‏.‏

9 - ومن نوى الصّوم من اللّيل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر فلم يفق حتّى غربت الشّمس، فقد قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يصحّ صومه لأنّ الصّوم هو الإمساك مع النّيّة‏.‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول اللّه تعالى‏:‏ كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي» فأضاف ترك الطّعام والشّراب إليه‏.‏ فإذا كان مغمًى عليه فلا يضاف الإمساك إليه فلم يجزه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يصحّ صومه لأنّ النّيّة قد صحّت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحّة الصّوم كالنّوم‏.‏

ومن أغمي عليه بعد أن نوى الصّيام وأفاق لحظةً في النّهار أجزأه الصّوم، أيّ لحظةٍ كانت، اكتفاءً بالنّيّة مع الإفاقة في جزءٍ، لأنّ الإغماء في الاستيلاء على العقل فوق النّوم ودون الجنون‏.‏ فلو قيل‏:‏ إنّ المستغرق منه لا يضرّ لألحق الأقوى بالأضعف‏.‏ ولو قيل‏:‏ إنّ اللّحظة منه تضرّ كالجنون لألحق الأضعف بالأقوى فتوسّط بين الأمرين‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ الإفاقة في أيّ لحظةٍ كافيةٌ‏.‏ وفي قولٍ ثانٍ للشّافعيّة‏:‏ إنّ الإغماء يضرّ مطلقاً قلّ أو كثر‏.‏

د - أثره في الحجّ‏:‏

10 - الإغماء كما تقدّم من عوارض الأهليّة‏.‏ فالمغمى عليه لا يتأتّى منه أداء أفعال الحجّ، ولكن هل يصحّ إحرام الغير عنه بدون إذنٍ منه ‏؟‏ وهل إذا أناب أحداً تقبل الإنابة ‏؟‏

قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ المغمى عليه لا يحرم عنه غيره، لأنّه ليس بزائل العقل وبرؤه مرجوٌّ على القرب‏.‏ ولو أيس من برئه بأن زاد إغماؤه على ثلاثة أيّامٍ فعند الشّافعيّة يحرم الوليّ عنه في المعتمد، وقاسوا ذلك على أنّه ليس لأحدٍ أن يتصرّف في ماله وإن لم يبرأ‏.‏

ومن يرجى برؤه ليس لأحدٍ أن ينوب عنه، وإن فعل لم يجزئه عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّه يرجو القدرة على الحجّ بنفسه، فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن وقعت، وفارق الميئوس من برئه، لأنّه عاجزٌ على الإطلاق آيسٌ من القدرة على الأصل فأشبه الميّت‏.‏ وعند أبي حنيفة أنّ من أغمي عليه فأهلّ عنه رفقاؤه جاز‏.‏ وقال الصّاحبان‏:‏ لا يجوز‏.‏ ولو أمر إنساناً بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه، أو نام فأحرم المأمور عنه صحّ بإجماع الحنفيّة، حتّى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال الحجّ جاز‏.‏ استدلّ الصّاحبان على الأوّل بأنّه لم يحرم بنفسه ولا أذن لغيره به وهذا لأنّه لم يصرّح بالإذن، والدّلالة تقف على العلم وجواز الإذن به لا يعرفه كثيرٌ من الفقهاء فكيف يعرفه العوامّ ‏؟‏ بخلاف ما لو أمر غيره بذلك صريحاً‏.‏ ولأبي حنيفة أنّه لمّا عاقد رفقاءه عقد الرّفقة فقد استعان بكلّ واحدٍ منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه، والإحرام هو المقصود بهذا السّفر، فكان الإذن به ثابتاً دلالةً، والعلم ثابتٌ نظراً إلى الدّليل، والحكم يدار عليه‏.‏

وعند المالكيّة أنّه لا يصحّ الإحرام عن المغمى‏.‏ عليه ولو خيف فوات الحجّ، لأنّه مظنّة عدم الطّول ثمّ إن أفاق في زمنٍ يدرك الوقوف فيه أحرم وأدرك ولا دم عليه في عدم إحرامه من الميقات‏.‏

11 - أمّا بالنّسبة للوقوف بعرفة، فالكلّ مجمعٌ على أنّه لو أفاق المغمى عليه في زمن الوقوف ولو لحظةً أجزأه‏.‏ وإن لم يفق من إغمائه إلاّ بعد الوقوف فمذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه فاته الحجّ في ذلك العام، ولا عبرة بإحرام أصحابه عنه ووقوفهم في عرفة‏.‏ وللشّافعيّة قولان في إجزاء وقوف المغمى عليه أو عدمه‏.‏

والحنفيّة يكتفون بالكينونة في محلّ الوقوف وزمنه مع سبق الإحرام، فوقوف المغمى عليه مجزئٌ‏.‏ أمّا أثر الإغماء على باقي أعمال الحجّ فينظر في الحجّ‏.‏

أثر الإغماء على الزّكاة‏:‏

12 - المغمى عليه بالغٌ عاقلٌ فتجب في ماله الزّكاة، فإذا أغمي عليه بعد وجوبها فلا يتأتّى منه الأداء، وعليه إذا أفاق قضاؤها ولو امتدّ به الإغماء، إذ امتداده نادرٌ والنّادر لا حكم له‏.‏

أثر الإغماء في التّصرّفات القوليّة

13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإغماء كالنّوم بل أشدّ منه في فوت الاختيار، لأنّ النّوم يمكن إزالته بالتّنبيه بخلاف الإغماء‏.‏ وتبطل عبادات النّائم في الطّلاق والإسلام والرّدّة والبيع والشّراء‏.‏ فبطلانها بالإغماء أولى‏.‏

واستدلّوا على عدم وقوع طلاق المغمى عليه بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلّ الطّلاق جائزٌ إلاّ طلاق المعتوه والمغلوب على عقله» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رفع القلم عن ثلاثةٍ، عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ، وعن المعتوه حتّى يعقل»، وقد أجمعوا على أنّ الرّجل إذا طلّق في حال نومه لا طلاق له، والمغمى عليه أشدّ حالاً من النّائم‏.‏ وقال الإمام أحمد في المغمى عليه إذا طلّق فلمّا أفاق علم أنّه كان مغمًى عليه وهو ذاكرٌ لذلك قال‏:‏ إذا كان ذاكراً لذلك فليس هو مغمًى عليه، يجوز طلاقه، ومثل ما ذكر كلّ تصرّفٍ قوليٍّ‏.‏

أثر الإغماء في عقود المعاوضة

14 - كلّ تصرّفٍ قوليٍّ يصدر في حال الإغماء فهو باطلٌ، لكن إذا تمّ التّصرّف في حال الصّحّة ثمّ طرأ الإغماء لا ينفسخ لتمامه في حالٍ تصحّ فيها‏.‏ ولا تصحّ وصيّة المغمى عليه في حالة الإغماء المؤقّت، ولا المغمى عليه الّذي يئس من إفاقته‏.‏

إغماء وليّ النّكاح

15 - قال الشّافعيّة‏:‏ إذا أغمي على وليّ النّكاح الأقرب فننتظر إفاقته إن كانت قريبةً كيومٍ ويومين وأكثر، لأنّ من أصول مذهبهم عدم جواز تزويج الوليّ الأبعد مع جمع وجود الوليّ الأقرب، وقيل‏:‏ تنتقل الولاية إلى الأبعد‏.‏

قالوا‏:‏ الأحسن في هذا ما قال إمام الحرمين‏:‏ إن كانت مدّة الإغماء بحيث يعتبر فيها إذن الوليّ الغائب ذهاباً وإياباً انتظر وإلاّ قام الحاكم بالتّزويج‏.‏ قال الزّركشيّ‏:‏ لأنّه إذا زوّج الحاكم مع صحّة عبارة الغائب فمع تعذّر ذلك بإغمائه أولى‏.‏

إغماء القاضي

16 - صرّح الشّافعيّة بأنّ القاضي إذا أغمي عليه فإنّه ينعزل عن ولاية القضاء، وإذا أفاق لا تعود ولايته على الأصحّ، ولا ينفذ قضاؤه فيما حكم فيه حال إغمائه، وفي مقابل الأصحّ تعود ولايته إذا أفاق‏.‏

أمّا غير الشّافعيّة فإنّهم لم ينصّوا على ذلك صراحةً، إلاّ أنّ مفهوم النّصوص عندهم تدلّ على أنّ القاضي لا ينعزل بالإغماء، فقد جاء في ابن عابدين‏:‏ لو فسق القاضي أو ارتدّ أو عمي ثمّ صلح وأبصر فهو على قضائه‏.‏ وفي الشّرح الصّغير‏:‏ لا يعزل القاضي إلاّ بالكفر فقط‏.‏ وفي شرح منتهى الإرادات‏:‏ يتعيّن عزل القاضي مع مرضٍ يمنعه من القضاء لدعاء الحاجة إلى إقامة غيره‏.‏

أثر الإغماء في التّبرّعات

17 - سبق بيان أنّ التّصرّفات القوليّة كلّها لا تصحّ من المغمى عليه، فلا تصحّ هبته ولا صدقته ولا وقفه وما إلى ذلك، لأنّ المغمى عليه مغلوب العقل فلا يتوفّر فيه شرط صحّة التّصرّف‏.‏ وهذا بإجماع الفقهاء، ولأنّ التّصرّفات يشترط فيها كمال العقل والمغمى عليه ليس كذلك‏.‏

أثر الإغماء في الجنايات

18 - تقدّم أنّ الإغماء عارضٌ وقتيٌّ تسقط فيه المؤاخذة وفهم الخطاب، فإنّ حالة المغمى عليه هي سترٌ للعقل ينشأ عنه فقدٌ للوعي وفقدٌ للاختيار، لذلك كان سبباً من أسباب عدم المؤاخذة بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى حسب البيان السّابق‏.‏

أمّا بالنّسبة لحقوق العباد فإنّها لا تسقط‏.‏ فإذا وقعت منه جرائم أخذ بها‏.‏ فإذا انقلب النّائم على غيره فمات فإنّه يعامل معاملة المخطئ وتجب الدّية‏.‏ وإذا أتلف مال إنسانٍ وهو مغمًى عليه وجب عليه ضمان ما أتلف‏.‏

هل يعتبر إغماء المعقود عليه عيباً ‏؟‏

19 – نصّ الشّافعيّة على أنّ الإغماء إذا تبيّن في الزّوج أو الزّوجة عقيب عقد النّكاح يبيح لكلٍّ من الزّوجين فسخ النّكاح إذا قرّر الأطبّاء اليأس من الإفاقة، وعلّته أنّ الإغماء المستديم يمنع من الاستمتاع المقصود من النّكاح‏.‏

قال الإمام النّوويّ‏:‏ قد أجمعوا على ثبوت الخيار في البيع بهذه الصّفات ‏(‏الجنون مطبقاً أو متقطّعاً‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ومثله الإغماء الميئوس منه بقول الأطبّاء‏.‏ وإذا كان الإغماء الميئوس منه عيباً يفسخ به النّكاح ويردّ به المبيع فهو في الإجارة أولى‏.‏ هذا ما ذكر الشّافعيّة، وقواعد غيرهم لا تأباه‏.‏

إفاضةٌ

التعريف

1 - من معاني الإفاضة في اللّغة‏:‏ الكثرة والإسالة، يقال‏:‏ أفاض الإناء‏:‏ إذا ملأه حتّى فاض، أي كثر ماؤه وسال‏.‏

ومن معانيها‏:‏ دفع النّاس من المكان، يقال‏:‏ أفاض النّاس من عرفاتٍ‏:‏ إذا دفعوا منها، وكلّ دفعةٍ إفاضةٌ‏.‏ وتأتي في الاصطلاح بهذين المعنيين موافقةً للمعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - تأتي إفاضة الماء بمعنى كثرته مع الإسالة في رفع الحدث الأصغر في الوضوء، والحدث الأكبر في الغسل من الجنابة والحيض والنّفاس والموت وعند الإسلام، فتكون الإسالة واجبةً والكثرة مندوبةً ما لم يخرج إلى حدّ السّرف، كما تجب في تطهير النّجاسات‏.‏ مثل إزالة النّجاسة عن المكان أو الجسد أو الثّوب، ‏(‏ر‏:‏ غسلٌ، وضوءٌ، نجاسةٌ‏)‏‏.‏

3 - وتأتي الإفاضة بالمعنى الثّاني، كالإفاضة من عرفة ومن مزدلفة، والإفاضة من منًى ‏(‏ر‏:‏ حجٌّ‏)‏‏.‏ وتكون هذه الإفاضة صحيحةً شرعاً إذا وافقت وقتها، وتكون سنّةً إذا وافقت فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم«مثل الإفاضة من عرفة بعد غروب شمس عرفة، والإفاضة من مزدلفة بعد صلاة الفجر»‏.‏

وتكون جائزةً مثل الإفاضة من منًى في اليوم الثّاني للرّمي للمتعجّل ‏(‏ر‏:‏ حجٌّ‏)‏‏.‏

4 - كما يضاف طواف الرّكن إلى الإفاضة فيسمّى ‏"‏ طواف الإفاضة ‏"‏ وحكمه أنّه ركنٌ في الحجّ‏.‏

إفاقةٌ

التعريف

1 - يقال لغةً‏:‏ أفاق السّكران إذا صحا، وأفاق من مرضه رجعت إليه الصّحّة، وأفاق عنه النّعاس أقلع‏.‏ وعند الفقهاء تستعمل الإفاقة بمعنى رجوع عقل الإنسان إليه بعد غيابه عنه بسبب الجنون، أو الإغماء، أو السّكر، أو النّوم‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - يتناول الفقهاء الإفاقة أثناء الكلام عن الجنون، والإغماء، والسّكر، والنّوم، ويبنون على الإفاقة من هذه العوارض أحكاماً منها ما يلي‏:‏

التّطهّر عند الإفاقة‏:‏

3 - لا خلاف في انتقاض الوضوء بالجنون أو الإغماء الأصليّ أو العارض، فإذا أفاق عليه الوضوء للصّلاة ونحوها، وذكر أغلب الفقهاء أنّه يستحبّ اغتسال المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، قال ابن المنذر‏:‏«ثبت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء»‏.‏

الصّلاة بعد الإفاقة

4 - ذهب الجمهور إلى أنّه إذا أفاق المجنون لا يكلّف قضاء ما فاته حال جنونه، ووافق الحنفيّة الجمهور في الجنون الأصليّ ‏(‏الممتدّ بعد البلوغ‏)‏ أمّا الجنون العارض فكالإغماء عندهم‏.‏

وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصّلوات الّتي لم يكن مفيقاً في جزءٍ من وقتها، وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا زاد الإغماء على يومٍ وليلةٍ تسقط به الصّلوات، وذهب الحنابلة إلى أنّه لا تسقط الصّلاة بالإغماء قياساً على النّوم، وبالإفاقة من النّوم يطالب بما فاته من صلواتٍ بالغةً ما بلغت‏.‏

ولا يخالف أحدٌ من الفقهاء في وجوب الصّلاة الّتي حدثت الإفاقة في وقتها المحدّد لها شرعاً، وقد بقي من الوقت ما يسع تلك الصّلاة، وسواءٌ أكانت الإفاقة عن جنونٍ أم غيره، وذلك لحديث‏:‏ «رفع القلم عن ثلاثةٍ‏:‏ عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ، وعن المعتوه حتّى يعقل» فإن ضاق الوقت عنها كلّها، فإنّ من الفقهاء من يقول بوجوبها إن بقي من الوقت قدر تكبيرةٍ، ومنهم من يقول بأنّها تجب إن بقي من الوقت ما يدرك به ركعةً‏.‏ وهل تسقط تلك الصّلاة لو صلّى صلاةً فائتةً، وخرج الوقت أم لا ‏؟‏ تفصيل ذلك يذكره الفقهاء في ‏(‏أوقات الصّلاة‏)‏‏.‏

أثر الإفاقة في الصّوم

5 - من الفقهاء من أوجب صيام الشّهر كلّه إن أفاق المجنون في جزءٍ منه، ومنهم من لا يجعل للإفاقة أثراً إلاّ في اليوم الّذي حدثت فيه، أمّا اليوم الّذي لم تحدث فيه إفاقةٌ فإنّه يسقط صومه عند هؤلاء‏.‏ وذهب البعض إلى أنّ الشّهر يسقط عنه إن كانت إفاقته في ليلةٍ من أوّله أو وسطه أو في آخر يومٍ من رمضان بعد الزّوال‏.‏

وعند المالكيّة يقضي المكلّف وإن جنّ سنين عديدةً بعد الإفاقة‏.‏ يرجع إلى تفصيل أحكام ذلك تحت عنوان ‏(‏صومٌ‏)‏‏.‏ ولو نوى الصّوم ثمّ جنّ أو أغمي عليه ثمّ أفاق في أثناء اليوم فهل يصحّ صومه أو لا ‏؟‏ خلافٌ بين الفقهاء، منهم من يقول بالصّحّة إن كانت الإفاقة في أوّل النّهار، ومنهم من يشترط للصّحّة أن تكون الإفاقة في طرفي النّهار، ومنهم من يقول بالصّحّة متى وقعت الإفاقة أثناء اليوم، فإن لم ينعقد صيامه ثمّ أفاق أثناء النّهار هل يندب له الإمساك أم لا ‏؟‏ فيه خلافٌ بين الفقهاء يذكر في ‏(‏الصّوم‏)‏‏.‏

تأخير حدّ الشّرب للإفاقة

6 - أجمع الأئمّة الأربعة على أنّه لا يقام الحدّ على من ثبت عليه حدّ الشّرب إلاّ بعد الإفاقة تحصيلاً لمقصود الزّجر، ولأنّ غيبوبة العقل تخفّف الألم‏.‏ فإن أقامه الإمام حال السّكر حرم ويجزئه، وتفصيل ذلك في ‏(‏حدّ الشّرب‏)‏‏.‏

إفاقة المحجور عليه

7 - لو أفاق المجنون المحجور عليه فإنّ الحجر ينفكّ بالإفاقة، ثمّ اختلف هل يحتاج إلى فكّ قاضٍ، وتفصيله في الحجر‏.‏

الإفاقة في الحجّ

8 - بالإضافة إلى ما تقدّم، يتكلّم الفقهاء عن الإفاقة في الحجّ ممّن أحرم ثمّ أغمي عليه، وأدّوا به بقيّة المناسك، ثمّ أفاق قبل تمام الحجّ أو بعده‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏إحرامٌ‏)‏‏.‏

تزويج المجنون إذا أفاق

9 - هل يزوّج الوليّ مولّيه المجنون إن كان جنونه منقطعاً في وقت الإفاقة أم لا‏.‏ انظر ‏(‏نكاحٌ‏)‏‏.‏

إفتاءٌ

انظر‏:‏ فتوى‏.‏

افتداءٌ

التعريف

1 - الافتداء لغةً‏:‏ الاستنقاذ بعوضٍ، كالفداء، واسم ذلك العوض ‏"‏ الفدية ‏"‏ أو ‏"‏ الفداء ‏"‏ وهو عوض الأسير‏.‏ ومفاداة الأسرى‏:‏ أن تدفع رجلاً وتأخذ رجلاً، والفداء‏:‏ فكاك الأسير‏.‏ ويطلق الافتداء في الاصطلاح على ما يشمل المعنى اللّغويّ وهو‏:‏ الاستنقاذ بعوضٍ، وعلى ما يكون جبراً لخطأٍ، أو محواً لإثمٍ أو تقصيرٍ‏.‏

الحكم الإجماليّ

يختلف حكم الافتداء باختلاف مواضعه ومن ذلك‏:‏

أ - افتداء اليمين ‏:‏

2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ لمن ادّعي عليه بحقٍّ ووجّهت إليه اليمين، أن يتحاشى الحلف ويفتدي اليمين بأداء المدّعى أو الصّلح منها على شيءٍ معلومٍ، لحديث‏:‏ «ذبّوا عن أعراضكم بأموالكم» والتّفصيل في بحث ‏(‏الدّعوى‏)‏ وفي ‏(‏الصّلح‏)‏‏.‏

ب - فداء الرّجال الأسرى المقاتلة من الكفّار‏:‏

3 - أجاز المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة قبول افتداء المشركين أسراهم الرّجال المقاتلة بمالٍ أو بأسرى من المسلمين، إذا رأى الإمام أو أمير الجيش في ذلك مصلحةً وحظّاً للمسلمين‏.‏ وأجاز أبو يوسف ومحمّدٌ مفاداة الأسير بالأسير، والدّليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً‏}‏

افتداء أسرى المسلمين‏:‏

4 - افتداؤهم بالمال مندوبٌ إليه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني» ‏(‏الأسير‏)‏ أمّا افتداؤهم بأسرى الكفّار فهو جائزٌ عند جمهور الفقهاء‏.‏ وتفصيله في، مصطلح ‏(‏أسرى‏)‏‏.‏

ج - الافتداء عن محظورات الإحرام‏:‏

5 - تجب عند جمهور الفقهاء الفدية عن ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ‏}‏ ولحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال‏:‏ «أتى عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية والقمل يتناثر على وجهي، فقال‏:‏ أيؤذيك هوامّ رأسك ‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏:‏ قال‏:‏ فاحلق وصم ثلاثة أيّامٍ، أو أطعم ستّة مساكين، أو انسك نسيكةً»‏.‏

مواطن البحث

6 - أبان الفقهاء أحكام الافتداء في مباحث الدّعوى، والأسرى، ومحظورات الإحرام وفي الفطر في رمضان لأهل الأعذار ‏(‏الحامل والمرضع‏)‏ أمّاً كانت أو ظئراً، ومن أفطر عمداً في رمضان ومات قبل القضاء والكفّارة‏.‏

وذكروا الفدية في صوم النّذر‏.‏ والفدية للشّيخ الفاني العاجز عن الصّوم‏.‏

وفي الخلع‏.‏ وتفصيل كلٍّ ممّا ذكر في مواطنه‏.‏

افتراءٌ

التعريف

1 - الافتراء في اللّغة، وفي الشّريعة‏:‏ الكذب والاختلاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ أي اختلقه وكذب به على اللّه، قال جلّ شأنه‏:‏ ‏{‏ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ‏}‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون‏}‏‏.‏

ويطلق بعض الفقهاء الفرية والافتراء على القذف، وهو رمي المحصن بالزّنى من غير دليلٍ‏.‏ وقد جاء في كلام عليّ بن أبي طالبٍ حين استشاره عمر بن الخطّاب في حدّ السّكر‏:‏ أنّه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى ‏(‏أي قذف كاذباً‏)‏ وحدّ المفتري - أي القاذف - ثمانون جلدةً‏.‏

الفرق بين الكذب والافتراء

الكذب قد يقع على سبيل الإفساد، وقد يكون على سبيل الإصلاح، كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين، أمّا الافتراء‏:‏ فإنّ استعماله لا يكون إلاّ في الإفساد‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يفطر الصّائم بشيءٍ من معاصي الكلام، ومنها الافتراء، ولكنّه ينقص أجره، وتفصيل ذلك تجده في بحث الصّيام عند كلامهم على ما يفطر الصّائم وما لا يفطره‏.‏

3 - الافتراء إذا استعمل وأريد به القذف، فإنّ أحكامه هي أحكام القذف المفصّلة في باب القذف، أمّا إذا أريد به غير القذف، ففيه التّعزير، لأنّه لا حدّ فيه، وكلّ إساءةٍ لا حدّ فيها ففيها التّعزير‏.‏

افتراشٌ

التعريف

1 - افتراش الشّيء لغةً‏:‏ بسطه‏.‏ يقال‏:‏ افترش ذراعيه إذا بسطهما على الأرض، كالفراش له‏.‏ والافتراش أيضاً‏:‏ وطء ما فرشه، ومنه افتراش البساط وطؤه والجلوس عليه، وافتراش المرأة‏:‏ اتّخاذها زوجةً، ولذلك سمّي كلٌّ من الزّوجين فراشاً للآخر‏.‏ والفقهاء يطلقون ‏"‏ الافتراش ‏"‏ على هذين المعنيين‏.‏

الحكم الإجماليّ

أ - افتراش اليدين والقدمين‏:‏

2 - كره الفقهاء للرّجل - دون المرأة - أن يفترش ذراعيه على الأرض في السّجود، لورود النّهي عن ذلك، لحديث «لا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب»‏.‏

ويكره للرّجل افتراش أصابع قدميه في السّجود‏.‏ وكره البعض للرّجل في قعود الصّلاة افتراش قدميه والجلوس على عقبيه، ولكن يسنّ له أن يجلس مفترشاً رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى‏.‏

وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة عند الكلام على السّجود والقعود فيها‏.‏

ب - الصّلاة على الثّوب المفروش على النّجاسة‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على جواز الصّلاة على الثّوب المفروش على النّجاسة إذا كان يمنع نفوذ النّجاسة إلى الأعلى، وظاهر كلام أحمد الجواز مع الكراهة، وفي روايةٍ عنه‏:‏ لا تجوز الصّلاة عليه‏.‏ وفصّل الحنفيّة فقالوا‏:‏ إنّ النّجاسة إمّا أن تكون طريّةً أو يابسةً، فإن كانت النّجاسة طريّةً وفرش عليها ثوبٌ، فإنّه يشترط فيه حتّى تجوز الصّلاة عليه، أن يكون الثّوب غليظاً يمكن فصله إلى طبقتين، وألاّ تكون النّجاسة قد نفذت من الطّبقة السّفلى إلى الطّبقة العليا‏.‏ أمّا إن كانت النّجاسة يابسةً، فيشترط في الثّوب المفروش عليها حتّى تصحّ الصّلاة عليه أن يكون غليظاً بحيث يمنع لون النّجاسة ورائحتها‏.‏

ج - افتراش الحرير ‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على جواز افتراش النّساء للحرير‏.‏

أمّا بالنّسبة للرّجال فذهب جمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى تحريمه، لقول حذيفة‏:‏ «نهانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذّهب والفضّة، وأن نأكل فيها، وأن نلبس الحرير والدّيباج، وأن نجلس عليه»‏.‏

وذهب الحنفيّة وبعض الشّافعيّة وابن الماجشون من المالكيّة إلى جواز ذلك مع الكراهة‏.‏ ورخّص ابن العربيّ من المالكيّة للرّجل أن يجلس وينام على فراش الحرير مع زوجته‏.‏

افتراقٌ

التعريف

1 - الافتراق‏:‏ مصدر افترق‏.‏ ومن معانيه في اللّغة‏:‏ انفصال الشّيء عن الشّيء، أو انفصال أجزاء الشّيء بعضها عن بعضٍ‏.‏ والاسم ‏(‏الفرقة‏)‏‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى، لأنّهم استعملوه في الانفصال بالأبدان‏.‏ وعمّمه بعضهم ليشمل الانفصال بالأقوال وبالأبدان، كما سيأتي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّفرّق‏:‏

2 - التّفرّق والافتراق بمعنًى واحدٍ‏.‏ ومنهم من جعل التّفرّق للأبدان، والافتراق بالكلام‏.‏ لكنّ الفقهاء استعملوا الافتراق أيضاً في الأبدان كما قلنا‏.‏

ب - التّفريق ‏:‏

3 - التّفريق‏:‏ مصدر فرّق‏.‏ واستعمله الفقهاء كثيراً في الفصل بين الزّوجين بحكم القاضي، والفصل بين أجزاء المبيع بقبول بعضها وردّ بعضها كما في ‏(‏تفريق الصّفقة‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - افتراق الطّرفين بعد الإيجاب وقبل القبول في أيّ عقدٍ من العقود يبطل الإيجاب، فلا يكفي بعده القبول لانعقاد العقد‏.‏ أمّا افتراق المتبايعين وتركهما المجلس بعد الإيجاب والقبول فموجبٌ للزوم البيع، إذا لم يكن في المبيع عيبٌ خفيٌّ، ولم يشترط في العقد خيارٌ، فلا يمكن فسخه إلاّ بالإقالة، كما هو الحكم في العقود اللاّزمة‏.‏ وهذا القدر متّفقٌ عليه بين الفقهاء‏.‏ وكذلك يلزمهما البيع قبل افتراقهما وتركهما المجلس إذا وجد الإيجاب والقبول عند الحنفيّة والمالكيّة، ولا يثبت خيار مجلسٍ بعد ذلك، لأنّ العقد تمّ بالإيجاب والقبول لوجود ركنه وشرائطه، فخيار الفسخ لأحدهما بعد ذلك يؤدّي إلى عدم استقرار المعاملات والإضرار بالآخر، لما فيه من إبطال حقّه‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّه لا يلزمه البيع إلاّ بافتراقهما عن المجلس، ولكلٍّ منهما الخيار ما لم يفترقا، وذلك استناداً إلى ما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا»‏.‏ وفي روايةٍ «ما لم يفترقا»‏.‏ وحملوا الافتراق في الحديث على افتراق الأبدان‏.‏ وهذا ما سمّوه بخيار المجلس‏.‏ والحنفيّة حملوا الحديث على افتراق الكلام والأقوال، فلم يأخذوا بخيار المجلس‏.‏ على أنّ عمل أهل المدينة مقدّمٌ على خبر الواحد عند المالكيّة، لأنّه بمنزلة التّواتر‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏خيار المجلس‏)‏‏.‏

مواطن البحث

5 - يرد مصطلح ‏(‏الافتراق‏)‏ عند الفقهاء في مبحث خيار المجلس من كتاب البيع، وفي التّفريق بين الزّوجين بالطّلاق والفسخ، وفي اللّعان، وكذلك في زكاة الأنعام من عدم جواز التّفريق بين ما هو مجتمعٌ، أو جمع ما هو متفرّقٌ‏.‏

افتضاضٌ

انظر‏:‏ بكارةٌ‏.‏

افتياتٌ

التعريف

1 - الافتيات‏:‏ الاستبداد بالرّأي، والسّبق بفعل شيءٍ دون استئذان من يجب استئذانه، أو من هو أحقّ منه بالأمر فيه، والتّعدّي على حقّ من هو أولى منه‏.‏ واستعمله الفقهاء بهذا المعنى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعدّي ‏:‏

2 - التّعدّي‏:‏ الظّلم ومجاوزة الحدّ، فهو أعمّ من الافتيات، لأنّه يشمل التّعدّي على شيءٍ لا حقّ له فيه، أو له فيه حقٌّ وغيره أولى منه به‏.‏

ب - الفضالة ‏:‏

3 - الفضوليّ‏:‏ من تصرّف في أمرٍ لم يكن فيه وليّاً ولا أصيلاً ولا وكيلاً فهو لا ولاية فيما يقدم عليه، أمّا المفتات فقد يكون صاحب حقٍّ لكنّ غيره أولى منه به‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - الافتيات غير جائزٍ، لأنّه تعدٍّ على حقّ من هو الأولى‏.‏ وقد يكون افتياتاً على حقّ الإمام، وقد يكون على حقّ غير الإمام‏.‏ فإن كان على حقّ الإمام ففيه التّعزير، لأنّه إساءةٌ إلى الإمام، ومن أمثلته ما يلي‏:‏

أ - الافتيات في إقامة الحدود‏:‏

5 - يتّفق الفقهاء على أنّ الّذي يقيم الحدّ هو الإمام أو نائبه، سواءٌ كان الحدّ حقّاً للّه تعالى كحدّ الزّنى، أو لآدميٍّ كحدّ القذف، لأنّه يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحيف، فوجب أن يفوّض إلى الإمام، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود في حياته، وكذا خلفاؤه من بعده‏.‏ ويقوم نائب الإمام فيه مقامه‏.‏

لكن إذا افتات المستحقّ أو غيره فأقام الحدّ بدون إذن الإمام، فإنّ الأئمّة متّفقون على أنّ المرتدّ لو قتله أحدٌ بدون إذن الإمام فإنّه يعتدّ بهذا القتل، ولا ضمان على القاتل، لأنّه محلٌّ غير معصومٍ، وعلى من فعل ذلك التّعزير، لإساءته وافتياته على الإمام‏.‏

وكذلك غير الرّدّة، فلا ضمان على من أقام حدّاً على من ليس له إقامته عليه فيما حدّه الإتلاف كقتل زانٍ محصنٍ، أو قطع يد سارقٍ توجّه عليه القطع، لأنّ هذه حدودٌ لا بدّ أن تقام، لكنّه يؤدّب لافتياته على الإمام‏.‏ وأمّا بالنّسبة للجلد في القذف، وفي زنا البكر ففيه خلافٌ وتفصيلٌ، ر‏:‏ ‏(‏حدٌّ، قذفٌ، زناً‏)‏‏.‏

ب - الافتيات في استيفاء القصاص‏:‏

6 - الأصل أنّه لا يجوز استيفاء القصاص إلاّ بإذن السّلطان وحضرته، لأنّه أمرٌ يفتقر إلى الاجتهاد، ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التّشفّي، ومع ذلك فمن استوفى حقّه من القصاص من غير حضرة السّلطان وإذنه، وقع الموقع ويعزّر، لافتياته على الإمام، وهذا عند الجمهور، وعند الحنفيّة لا يشترط إذن الإمام‏.‏

أمّا الافتيات على غير الإمام، فإنّ المقصود بالحكم فيه بيان صحّة هذا العمل أو فساده، ومن أمثلة ذلك‏:‏

الافتيات في التّزويج‏:‏

7 - إذا زوّج المرأة وليّها الأبعد مع وجود الوليّ الأقرب الّذي هو الأحقّ بولاية العقد فإنّ الفقهاء يختلفون في ذلك‏.‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة يصحّ العقد برضاها بالقول دون السّكوت، ويزيد المالكيّة شرطاً آخر، وهو ألاّ يكون الأقرب غير مجبرٍ، فإن كان الأقرب مجبراً كالأب فلا يصحّ العقد‏.‏ ويقول الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا زوّج المرأة من غيره أولى منه وهو حاضرٌ ولم يعضلها لم يصحّ النّكاح‏.‏

مواطن البحث

8 - للافتيات مواطن متعدّدةٌ تأتي في الحدود‏:‏ كالسّرقة، والزّنى، وشرب الخمر، والقذف، وتأتي في الإتلاف، وفي العقود كالنّكاح والبيع، وتنظر في مواضعها‏.‏

إفرادٌ

التعريف

1 - الإفراد لغةً‏:‏ مصدر أفرد، والفرد ما كان وحده، وأفردته‏:‏ جعلته واحداً، وعدّدت الدّراهم أفراداً أي‏:‏ واحداً واحداً، وأفردت الحجّ عن العمرة، فعلت كلّ واحدٍ على حدةٍ‏.‏ وقد استعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ في مواطن متعدّدةٍ ستأتي‏:‏

أ - الإفراد في البيع‏:‏

2 - قال الحطّاب‏:‏ لا يجوز أن يفرد الحنطة في سنبلها بالبيع دون السّنبل‏.‏

ب - الإفراد في الوصيّة‏:‏

3 - جاء في فتح القدير‏:‏ يجوز إفراد الأمّ بالوصيّة وكذلك يجوز إفراد الحمل‏.‏

ج - الإفراد في الأكل‏:‏

4 - جاء في الآداب الشّرعيّة لابن مفلحٍ‏:‏ يكره القران في التّمر، وعلى قياسه كلّ ما العادة جاريةٌ بتناوله أفراداً، وفي الصّحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن القران إلاّ أن يستأذن الرّجل أخاه»‏.‏

د - إفراد الحجّ‏:‏

5 - هو أن يهلّ بالحجّ مفرداً‏.‏

وسيكون البحث هنا خاصّاً بإفراد الحجّ‏.‏ أمّا المواضع الأخرى فتنظر في مواطنها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

6 - تقدّم أنّ الإفراد‏:‏ هو أن يهلّ بالحجّ مفرداً عن العمرة‏.‏

أمّا القران‏:‏ فهو أن يحرم بالعمرة والحجّ معاً فيجمع بينهما في إحرامه، أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل الطّواف لها‏.‏

وأمّا التّمتّع‏:‏ فهو أن يهلّ بعمرةٍ مفردةٍ من الميقات في أشهر الحجّ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه‏.‏ وسيأتي ما يفترق به الإفراد عن كلٍّ من التّمتّع والقران‏.‏

المفاضلة بين كلٍّ من الإفراد والقران والتّمتّع

7 - اختلف الفقهاء في الإفراد، والقران، والتّمتّع أيّها أفضل، والاتّجاهات في ذلك كالآتي‏:‏

أ - الإفراد أفضل عند المالكيّة والشّافعيّة، لكنّ أفضليّته عند الشّافعيّة، وفي قولٍ عند المالكيّة إن اعتمر في نفس العام بعد أداء الحجّ، ولذلك يقول الشّافعيّة إن لم يعتمر في نفس العام كان الإفراد مكروهاً‏.‏ واستدلّ القائلون بأفضليّة الإفراد بما صحّ عن جابرٍ وعائشة وابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهم «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ»، ثمّ بالإجماع على أنّه لا كراهة فيه، وأنّ المفرد لم يربح إحراماً من الميقات ‏(‏بالاستغناء عن الرّجوع ثانيةً للإحرام‏)‏ ولا ربح استباحة المحظورات‏.‏

ب - القول الثّاني‏:‏ أنّ القران أفضل‏:‏ وذلك عند الحنفيّة، وفي قولٍ للإمام أحمد أنّه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق الهدي فالتّمتّع أفضل‏.‏ واستدلّ الحنفيّة على أفضليّة القران بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا آل محمّدٍ‏:‏ أهّلوا بحجّةٍ وعمرةٍ معاً» ولأنّ في القران جمعاً بين العبادتين‏.‏ ويلي القران في الأفضليّة عند الحنفيّة التّمتّع ثمّ الإفراد، وهذا في ظاهر الرّواية، لأنّ في التّمتّع جمعاً بين العبادتين فأشبه القران، ثمّ فيه زيادة نسكٍ وهي إراقة الدّم‏.‏

وعن أبي حنيفة رحمه الله أنّه يلي القران الإفراد ثمّ التّمتّع، لأنّ المتمتّع سفره واقعٌ لعمرته والمفرد سفره واقعٌ لحجّته‏.‏ ووافقه في ذلك أشهب من المالكيّة‏.‏

ج - التّمتّع أفضل‏:‏ وهذا عند الحنابلة وفي قولٍ عند الشّافعيّة والمالكيّة، ويلي التّمتّع عند الحنابلة الإفراد ثمّ القران‏.‏ واستدلّ الحنابلة على أفضليّة التّمتّع بما روى ابن عبّاسٍ وجابرٌ وأبو موسى وعائشة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لمّا طافوا بالبيت أن يحلّوا ويجعلوها عمرةً» فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة، ولا ينقلهم إلاّ إلى الأفضل، ولأنّ المتمتّع يجتمع له الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسّهولة مع زيادة نسكٍ فكان ذلك أولى‏.‏

8- وقد ذكر الرّمليّ في نهاية المحتاج أنّ منشأ الخلاف اختلاف الرّواة في إحرامه صلى الله عليه وسلم لأنّه صحّ عن جابرٍ وعائشة وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم «أنّه صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ»، وعن أنسٍ «أنّه قرن»، وعن ابن عمر «أنّه تمتّع»، ثمّ قال‏:‏ إنّ الصّواب الّذي نعتقده أنّه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ ثمّ أدخل عليه العمرة، وخصّ بجوازه في تلك السّنة للحاجة‏.‏

وبهذا يسهل الجمع بين الرّوايات، فعمدة رواة الإفراد أوّل الإحرام، ورواة القران آخره، ومن روى التّمتّع أراد التّمتّع اللّغويّ وهو الانتفاع، وقد انتفع بالاكتفاء بفعلٍ واحدٍ، ويؤيّد ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السّنة عمرةً مفردةً، ولو جعلت حجّته مفردةً لكان غير معتمرٍ في تلك السّنة، ولم يقل أحدٌ إنّ الحجّ وحده أفضل من القران فانتظمت الرّوايات في حجّته‏.‏

حالة وجوب الإفراد ‏(‏وجوبه في حقّ المكّيّ‏)‏‏:‏

9 - اختلف الفقهاء بالنّسبة للمكّيّ ومن في حكمه هل له تمتّعٌ وقرانٌ، أم ليس له إلاّ الإفراد خاصّةً ‏؟‏ فيرى الجمهور أنّ لأهل مكّة المتعة والقران مثل الآفاقيّ، ولأنّ التّمتّع الّذي ورد في الآية أحد الأنساك الثّلاثة، فصحّ من المكّيّ كالنّسكين الآخرين، ولأنّ حقيقة التّمتّع هو أن يعتمر في أشهر الحجّ ثمّ يحجّ من عامه، وهذا موجودٌ في المكّيّ‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ أهل مكّة ليس لهم تمتّعٌ ولا قرانٌ، وإنّما لهم الإفراد خاصّةً، لأنّ شرعهما للتّرفّه بإسقاط إحدى السّفرتين وهذا في حقّ الآفاقيّ‏.‏

10 - واختلف الفقهاء أيضاً في حاضري المسجد الحرام‏.‏ فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّهم أهل الحرم ومن بينه وبين مكّة دون مسافة القصر‏.‏ فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكّة‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّهم أهل مكّة وأهل ذي طوًى‏.‏

وفي ذلك فروعٌ كثيرةٌ ‏(‏ر‏:‏ حجٌّ - إحرامٌ - ميقاتٌ - تمتّعٌ‏)‏‏.‏

نيّة الإفراد

11 - ويختلف الفقهاء فيما ينعقد به إحرام المفرد‏:‏ فعند الشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة أنّ الإحرام ينعقد بمجرّد النّيّة مع استحباب التّلفّظ بما أحرم به فيقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي وتقبّله منّي‏.‏ وفي قولٍ للشّافعيّة أنّ الإطلاق أولى، لأنّه ربّما حصل عارضٌ من مرضٍ أو غيره فلا يتمكّن من صرفه إلى ما لا يخاف فوته، فإن أحرم إحراماً مطلقاً في أشهر الحجّ صرفه بالنّيّة - لا باللّفظ - إلى ما شاء من النّسكين أو إليهما معاً إن كان الوقت صالحاً لهما‏.‏ وعند الحنفيّة لا ينعقد الإحرام إلاّ بأمرين‏:‏ النّيّة والتّلبية، ولا يصير شارعاً في الإحرام بمجرّد النّيّة ما لم يأت بالتّلبية، لأنّ التّلبية في الحجّ كتكبيرة الإحرام في الصّلاة‏.‏ وفي قولٍ عند المالكيّة‏:‏ ينعقد بالنّيّة مع قولٍ كالتّلبية والإهلال، أو فعلٍ كالتّوجّه في الطّريق والتّجرّد من المخيط‏.‏

على أنّ الّذي ذكر لا يختصّ بالإفراد وحده، وإنّما ينطبق على القران والتّمتّع، إذ لا بدّ في أيّ نسكٍ من هذه الأنساك الثّلاثة عند الإحرام بأيٍّ منها من النّيّة على رأي الجمهور، أو النّيّة والتّلبية على رأي أبي حنيفة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إحرامٌ - قرانٌ - تمتّعٌ‏)‏‏.‏

التّلبية في الإفراد

12 - التّلبية في الحجّ على اختلاف حكمها من أنّها سنّةٌ أو واجبةٌ تستوي كيفيّتها والبدء بها بالنّسبة للمحرم بأيّ نسكٍ من الأنساك الثّلاثة‏.‏ أمّا قطع التّلبية فيكون المتمتّع والمفرد والقارن بالنّسبة لقطعها سواءً‏.‏ فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يقطع التّلبية عند ابتداء الرّمي‏.‏ وعند المالكيّة يقطعها إذا وصل لمصلّى عرفة بعد الزّوال، وإن كان قد وصل قبل الزّوال لبّى إلى الزّوال، وإن زالت الشّمس قبل الوصول لبّى إلى الوصول‏.‏ وهناك تفريعاتٌ كثيرةٌ بالنّسبة للتّلبية‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ تلبيةٌ‏)‏‏.‏

ما يفترق به المفرد عن المتمتّع والقارن

أ - الطّواف بالنّسبة للمفرد‏:‏

13 - الطّواف في الحجّ ثلاثة أنواعٍ‏:‏ طواف القدوم إلى مكّة، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النّحر، وطواف الوداع‏.‏ والفرض من ذلك هو طواف الإفاضة، ويسمّى طواف الزّيارة أو الفرض أو الرّكن، وما عدا ذلك فهو سنّةٌ أو واجبٌ ينجبر بالدّم على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك ‏(‏ر‏:‏ طوافٌ‏)‏‏.‏

والفرض على المفرد من هذه الأنواع هو طواف الإفاضة فقط، لأنّه الرّكن، فلا يجب عليه طواف القدوم، بل يطالب به على سبيل السّنّيّة‏.‏

ب - عدم وجوب الدّم على المفرد‏:‏

14 - لا يجب على المفرد هديٌ لإحرامه بالحجّ مفرداً بخلاف القارن والمتمتّع فإنّ عليهما الهدي، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي‏}‏ والقارن كالمتمتّع، لإحرامه بالنّسكين‏.‏ إلاّ أنّه يستحبّ للمفرد أن يهدي ويكون تطوّعاً‏.‏

ثمّ إنّ جزاء الصّيد وفدية الأذى بالنّسبة للمفرد والقارن والمتمتّع سواءٌ عند الجمهور‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ دمٌ - هديٌ - كفّارةٌ - قرانٌ - تمتّعٌ‏)‏‏.‏

إفرازٌ

التعريف

1 - الإفراز في اللّغة‏:‏ التّنحية، وهي عزل شيءٍ عن شيءٍ وتمييزه، ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العزل

2 - العزل يختلف عن الإفراز‏.‏ في أنّ الإفراز يكون لجزءٍ من الأصل، أو كالجزء منه في شدّة اختلاطه به، أمّا العزل فهو التّنحية، والشّيء المنحّى قد يكون جزءاً من المنحّى عنه، وقد لا يكون، بل قد يكون خارجاً عنه‏.‏ كالعزل عن الزّوجة‏.‏

ب - القسمة

3 - القسمة قد تكون بالإفراز، وقد يقصد بها بيان الحصص دون إفرازٍ، كما في المهايأة‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - الإفراز يرد على الأعيان دون المنافع ولذلك لمّا بيّن الفقهاء أنواع القسمة، قالوا‏:‏ القسمة إمّا أن تكون قسمة أعيانٍ، أو قسمة منافع، وسمّوا قسمة المنافع المهايأة‏.‏

أمّا قسمة الأعيان‏:‏ فقالوا إمّا أن تكون قسمة إفرازٍ، أو قسمة تعديلٍ، وهم يعنون بقسمة الإفراز‏:‏ القسمة الّتي لا يحتاج فيها إلى ردٍّ ولا تقويمٍ‏.‏ والفقهاء قد اختلفوا في حقيقة القسمة، فقال بعضهم‏:‏ هي بيعٌ، وقال بعضهم‏:‏ هي إفرازٌ، وقال آخرون‏:‏ هي إفراز بعض الأنصباء عن بعضٍ ومبادلة بعضٍ ببعضٍ‏.‏ كما بيّن الفقهاء ذلك في أوّل كتاب القسمة‏.‏ وإذا كانت القسمة في حقيقتها لا تخلو من الإفراز، فإنّ هذا الإفراز يسقط حقّ الشّفعة عند من يقول‏:‏ إنّ الشّفعة لا تستحقّ بالجوار، كما بيّن الفقهاء ذلك في كتاب الشّفعة‏.‏

5 - الإفراز واجبٌ في العقود الّتي يشترط القبض للزومها أو تمامها، وهي‏:‏ الوقف، والهبة، والرّهن، والقرض، إذا وردت على مشاعٍ، على خلافٍ وتفصيلٍ في ذلك تجده في أبوابها من كتب الفقه‏.‏

6 - يجب ردّ العين المستحقّة المخلوطة بغيرها إن أمكن إفرازها، وإن لم يمكن وجب ردّ بدلها، كما إذا غصب شيئاً فخلطه بما يمكن تمييزه عنه، وجب إفرازه وردّه إلى من غصبه منه كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الاستحقاق والغصب‏.‏

7 - والإفراز يقوم مقام القبض في التّبرّعات الّتي يكون القصد منها تحقيق مثوبة اللّه تعالى، والّتي يكون التّمليك فيها للّه تعالى كالزّكاة‏.‏ فإن وجبت عليه الزّكاة فعزلها فهلكت من غير تفريطٍ منه لا يلزمه إخراجها من جديدٍ على خلافٍ وتفصيلٍ موطنه باب الزّكاة‏.‏

إفسادٌ

التعريف

1 - الإفساد لغةً‏:‏ ضدّ الإصلاح، وهو جعل الشّيء فاسداً خارجاً عمّا ينبغي أن يكون عليه‏.‏ وشرعاً‏:‏ جعل الشّيء فاسداً، سواءٌ وجد صحيحاً ثمّ طرأ عليه الفساد - كما لو انعقد الحجّ صحيحاً ثمّ طرأ عليه ما يفسده - أو وجد الفساد مع العقد، كبيع الطّعام قبل قبضه‏.‏ وقد فرّق الحنفيّة بين الإفساد والإبطال تبعاً لتفريقهم بين الفاسد والباطل، فقالوا‏:‏ الفاسد ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه، والباطل ما ليس مشروعاً بأصله ولا بوصفه‏.‏ أمّا غير الحنفيّة فالإفساد والإبطال عندهم بمعنًى واحدٍ، وقد وافقهم الحنفيّة في العبادات‏.‏ ولبعض المذاهب تفرقةٌ بين الباطل والفاسد في بعض الأبواب‏:‏ كالحجّ، والخلع‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإتلاف ‏:‏

2 - الإتلاف في اللّغة‏:‏ بمعنى الإهلاك يقال‏:‏ أتلف الشّيء إذا أفناه وأهلكه، وهو في الشّرع بهذا المعنى، يقول الكاسانيّ‏:‏ إتلاف الشّيء إخراجه من أن يكون منتفعاً به منفعةً مطلوبةً منه عادةً‏.‏ فالإفساد أعمّ من الإتلاف، فإنّهما يجتمعان في الأمور الحسّيّة، وينفرد الإفساد في التّصرّفات القوليّة‏.‏

ب - الإلغاء ‏:‏

3 - الإلغاء من معانيه‏:‏ إبطال العمل بالحكم، وإسقاطه، وقد ألغى ابن عبّاسٍ طلاق المكره، أي أبطله وأسقطه‏.‏ ويستعمل الأصوليّون الإلغاء في تقسيم العلّة بمعنى عدم تأثير الوصف في الحكم، وهو المناسب الملغى عندهم، كما يستعملون الإلغاء في إهدار أثر التّصرّف من فاقد الأهليّة‏.‏

ج - التّوقّف ‏:‏

4 - العقد الموقوف ضدّ النّافذ، وهو ما توقّف نفاذه على الإجازة من مالكها، كبيع الفضوليّ‏.‏ فإنّه يكون بهذا المعنى جائزاً في الجملة، بخلاف الفاسد، فإنّه غير مشروعٍ‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - المقرّر شرعاً أنّ العبادة بعد الفراغ منها صحيحةٌ، لا يلحقها الإفساد ضرورة أنّ الواقع يستحيل رفعه، إلاّ بأسبابٍ يصار إليها بالدّليل كالرّدّة، فإنّها تفسد الأعمال الصّالحة والعبادات، كما أنّ الإسلام يهدم ما قبله والهجرة تهدم ما قبلها، وكذلك التّوبة والحجّ المبرور‏.‏ أمّا بعد الشّروع في العبادة وقبل الفراغ منها، فيحرم إفساد الفرض بعد التّلبّس به دون عذرٍ شرعيٍّ، وكذلك النّفل عند الحنفيّة والمالكيّة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏ ولهذا يجب إعادته‏.‏ أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيكره عندهم إفساد النّافلة بعد الشّروع فيها ولا إعادة إن أفسد النّافلة المطلقة، عدا الحجّ والعمرة فيحرم إفسادهما عند الشّافعيّة والحنابلة، وفي روايةٍ أخرى عن أحمد أنّهما كسائر التّطوّعات‏.‏

أمّا التّصرّفات اللاّزمة فلا يرد عليها الإفساد بعد نفاذها‏.‏ إلاّ أنّه يجوز الفسخ برضا العاقدين كما في الإقالة، وفي العقود غير اللاّزمة من الجانبين يصحّ لكلّ واحدٍ منهما إفسادها متى شاء، أمّا اللاّزمة من جانبٍ واحدٍ، فلا يجوز إفسادها ممّن هي لازمةٌ في حقّه ويجوز للآخر‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ يرجع إليه في تلك العقود والتّصرّفات‏.‏

أثر الإفساد في العبادات

6 - من شرع في عبادةٍ مفروضةٍ فرضاً عينيّاً أو كفائيّاً، كالصّلاة والصّوم، فإنّه يجب عليه القيام بها على الوجه المشروع باستيفاء أركانها وشرائطها حتّى تبرأ الذّمّة، فإذا أفسدها فعليه أداؤها في الوقت، أمّا بعده فعليه فعلها تامّةٌ، كما لو صلّى مسافرٌ خلف مقيمٍ ثمّ أفسد صلاته لزمه قضاؤها تامّةً، لأنّها لا تبرئ الذّمّة بعد الفساد بلا خلافٍ‏.‏ كما لا يجب المضيّ في فاسدها أو باطلها في الجملة، لأنّ فاسد العبادات لا يلحق بصحيحها إلاّ في الحجّ والعمرة، فإنّه يمضي في فاسدهما وعليه القضاء‏.‏ وهذا مخالفٌ لسائر العبادات حيث إنّ العبادة الفاسدة ينقطع حكمها ولا يبقى شيءٌ من عهدها‏.‏

أمّا ما شرع فيه من التّطوّع فإنّه يجب إتمامه، وإذا أفسده يقضيه وجوباً، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏

أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد قالوا‏:‏ يستحبّ إتمام النّفل الّذي شرع فيه، كما يستحبّ قضاء ما أفسده بعد الشّروع فيه من النّوافل، وهذا في غير التّطوّع بالحجّ والعمرة، حيث يجب إتمامهما إذا شرع فيهما‏.‏ ولو وقع منه مفسدٌ لهما، يجب عليه قضاؤهما حينئذٍ مع الجزاء اللاّزم في ذمّته على ما سبق‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏الإحرام، والحجّ‏)‏‏.‏

إفساد الصّوم

7 - أجمع العلماء على أنّ من جامع أو استمنى أو طعم أو شرب عن قصدٍ، مع ذكر الصّوم في نهاره فقد أفسد صومه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب اللّه لكم، وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏

وقد اختلفوا في مفسداتٍ أخرى للصّوم، منها ما يرد إلى الجوف من غير منفذ الطّعام والشّراب مثل الحقنة، ومنها ما يرد إلى باطن الأعضاء ولا يرد الجوف، مثل أن يرد الدّماغ ولا يرد المعدة‏.‏ وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذّي على غير المغذّي‏.‏ فمن رأى أنّ المقصود بالصّوم معنًى معقولٌ لم يلحق المغذّي بغير المغذّي، ومن رأى أنّها عبادةٌ غير معقولةٍ، وأنّ المقصود منها إنّما هو الإمساك فقط عمّا يرد الجوف، سوّى بين المغذّي وغيره‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏احتقانٌ‏)‏ ‏(‏وصومٌ‏)‏‏.‏

8 - واختلفوا في الحجامة والقيء‏.‏ فأمّا الحجامة فقد رأى أحمد وداود والأوزاعيّ وإسحاق بن راهويه أنّها تفسد الصّوم، وقال المالكيّة والشّافعيّة بالكراهة، وقال الحنفيّة بعدم الإفساد‏.‏ والسّبب في ذلك هو تعارض الآثار الواردة في ذلك‏.‏ وأمّا القيء فالجمهور على أنّ من ذرعه القيء فليس بمفطرٍ، وأنّ من استقاء فقاء فإنّه يفسد صومه‏.‏ وفي الموضوع تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏صومٌ‏)‏ ‏(‏وقيءٌ‏)‏‏.‏

نيّة إفساد العبادة

9 - نيّة الإفساد يختلف أثرها صحّةً وبطلاناً عند العلماء باختلاف العبادات والأفعال والأحوال‏.‏ فإذا نوى إفساد الإيمان أو قطعه، صار مرتدّاً في الحال والعياذ باللّه، وإن نوى إفساد الصّلاة بعد الفراغ منها لم تبطل، وكذلك سائر العبادات، وإن نوى قطع الصّلاة في أثنائها بطلت بلا خلافٍ، لأنّها شبيهةٌ بالإيمان، ولو نوى قطع السّفر بالإقامة صار مقيماً‏.‏ أمّا إذا نوى قطع الصّيام بالأكل أو الجماع في نهاره، فإنّه لا يفسد صومه حتّى يأكل أو يجامع‏.‏

ولو نوى قطع الحجّ أو العمرة لم يبطلا بلا خلافٍ، لأنّه لا يخرج منهما بالإفساد، فلا يخرج بالأولى بنيّة الإفساد أو الإبطال‏.‏ ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏نيّةٌ‏)‏ وإلى مواطن تلك العبادات‏.‏

أثر الشّروط الفاسدة في إفساد العقد

10 - إفساد العقد بالشّروط الفاسدة يرجع إلى ما يسبّبه من غررٍ أو رباً أو نقصٍ في الملك، أو اشتراط أمرٍ محظورٍ أو لا يقتضيه العقد، وفيه منفعةٌ لأحد العاقدين‏.‏ والعقود عند اقترانها بهذه الشّروط‏:‏ نوعان‏:‏

الأوّل ‏:‏ عقودٌ تفسد عند اقترانها بها،

والثّاني ‏:‏ عقودٌ تصحّ، ويسقط الشّرط، وعلى هذا اتّفقت المذاهب الأربعة‏.‏

وقد اختلفت المذاهب في الأثر النّاشئ عن الشّروط‏:‏ فعند الحنفيّة، كلّ تصرّفٍ لا يكون الغرض منه مبادلة مالٍ بمالٍ، لا يفسد بالشّروط الفاسدة، وما عدا ذلك يعتريه الفساد‏.‏ فالّذي يفسد بالشّروط الفاسدة مثل‏:‏ البيع، والقسمة، والإجارة، والّذي لا يفسد مثل‏:‏ النّكاح والقرض، والهبة، والوقف، والوصيّة‏.‏

وكذلك الشّافعيّة، إذ يفسد العقد عندهم بالشّرط في الجملة، وعند المالكيّة اشتراط أمرٍ محظورٍ، أو أمرٍ يؤدّي إلى غررٍ فاحشٍ، يؤدّي إلى فساد العمد، فالأمر المحظور مثل‏:‏ ما إذا اشترى داراً واشترط اتّخاذها مجمعاً للفساد‏.‏ فالشّرط حرامٌ والبيع فاسدٌ‏.‏ والغرر الفاحش مثل‏:‏ ما إذا باع داراً واشترط أن يكون ثمنها يكفيه للنّفقة طول حياته، فإنّه لا تدرى نفقته ولا كم يعيش‏.‏

وخالف الحنابلة فقالوا‏:‏ هذه الشّروط المحرّمة أو تلك الّتي تؤدّي إلى غررٍ فاحشٍ، لا تؤدّي إلى إفساد العقد، وإنّما تلغى، ويصحّ العقد‏.‏ أمّا الشّروط الّتي تؤدّي إلى إفساد العقد فهي، اشتراط عقدٍ في عقدٍ، أو شرطين في بيعٍ، أو اشتراط ما ينافي مقصود العقد‏.‏ مثل‏:‏ ما إذا اشترط أحد المتبايعين على الآخر عقداً آخر كشرطٍ للبيع، كأن يقول‏:‏ بعتك هذه الدّار على أن تبيعني هذه الفرس‏.‏ فهذا اشتراط عقدٍ في عقدٍ، ومثل‏:‏ ما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع، وكذلك إن شرط أنّ الجارية المبيعة لا تحمل، أو تضع الولد في وقتٍ بعينه‏.‏ فهذا اشتراطٌ ينافي مقصود العقد‏.‏

إفساد النّكاح

11 - إفساد النّكاح بعد وجوده صحيحاً لا يسقط حقّ المرأة في الصّداق إن كان بعد الدّخول اتّفاقاً، أمّا قبل الدّخول فإنّه لا يسقط حقّها في نصف المهر، إذا وقع الإفساد من جهته، كردّته‏.‏ أمّا لو وقع إفساد النّكاح من جهتها، فلا مهر لها ولا نفقة، لتسبّبها في إفساد النّكاح الّذي هو موجبٌ للمهر‏.‏ ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏نكاحٌ‏)‏ ‏(‏ورضاعٌ‏)‏‏.‏ أثر

الإفساد في التّوارث بين الزّوجين

12 - إذا وقعت الفرقة بإفساد النّكاح بغير طلاقٍ انتفى التّوارث عند موت أحدهما، أمّا ما كانت الفرقة فيه بطلاقٍ فإنّه يثبت فيه التّوارث في بعض الأحوال، كما لو طلّقها في مرض الموت فارّاً من توريثها‏.‏

إفساد الزّوجة على زوجها

13 - يحرم إفساد المرأة على زوجها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من خبّب زوجة امرئٍ أو مملوكه فليس منّا» فمن أفسد زوجة امرئٍ أي‏:‏ أغراها بطلب الطّلاق أو التّسبّب فيه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر‏.‏ وقد صرّح الفقهاء بالتّضييق عليه وزجره، حتّى قال المالكيّة بتأبيد تحريم المرأة المخبّبة على من أفسدها على زوجها معاملةً له بنقيض قصده، ولئلاّ يتّخذ النّاس ذلك ذريعةً إلى إفساد الزّوجات‏.‏ ر - ‏(‏تخبيبٌ‏)‏‏.‏

الإفساد بين المسلمين

14 - تحرم الوقيعة وإفساد ذات البين بين المسلمين، لأمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ الإبقاء على وحدة المسلمين‏.‏

الثّاني‏:‏ رعاية حرمتهم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا‏}‏، ولما روي عن ابن عمر أنّه نظر يوماً إلى الكعبة فقال‏:‏«ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمةً عند اللّه منك»،ولهذا كان إصلاح ذات البين من أفضل القربات، وإفساد ذات البين من أكبر الكبائر، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ إصلاح ذات بينٍ، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» ولهذا نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن تتبّع عورات المسلمين، وعن الغيبة، والنّميمة، وسوء الظّنّ، والتّباغض، والتّحاسد، وكلّ ما يؤدّي إلى الوقيعة بين المسلمين‏:‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخواناً، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيّامٍ»

أمّا الإفساد في الأرض بقطع الطّريق وسلب الأموال والأعراض وإتلاف النّفوس فهو محرّمٌ، وعقوبته منصوصٌ عليها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض‏}‏‏.‏ وتفصيله في حرابةٌ‏.‏

كما نهى الشّارع عن جميع أنواع الإفساد، بفعل المعاصي، وإشاعة الفواحش، وفعل كلّ ما فيه ضررٌ على المسلمين‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون‏}‏‏.‏

إفشاء السّرّ

التعريف

1 - الإفشاء لغةً‏:‏ الإظهار، يقال‏:‏ أفشا السّرّ‏:‏ إذا أظهره، ففشا فشواً وفشوّاً، والسّرّ هو ما يكتم، والإسرار خلاف الإعلان‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإشاعة

2 - إشاعة الخبر‏:‏ إظهاره ونشره، والشّيوع‏:‏ الظّهور‏.‏

ب - الكتمان

3 - الكتمان‏.‏ الإخفاء‏:‏ يقال‏:‏ كتمت زيداً الحديث‏:‏ أي أخفيته عنه، فهو ضدّ الإفشاء‏.‏

ج - التّجسّس

4 - هو تتبّع الأخبار، ومنه الجاسوس، لأنّه يتتبّع الأخبار، ويفحص عن بواطن الأمور، وهو يستعمل غالباً في الشّرّ فالتّجسّس‏:‏ السّعي للحصول على السّرّ‏.‏

د - التّحسّس

5 - هو الاستماع إلى حديث الغير، وهو منهيٌّ عنه، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخواناً» والتّحسّس إن كان لإذاعة أخبار النّاس السّيّئة فهو كإفشاء السّرّ في الحرمة، وقد يكون التّحسّس لإشاعة الخير، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بنيّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه‏}‏‏.‏

حكمه التّكليفيّ

أنواع السّرّ‏:‏ يتنوّع السّرّ إلى ثلاثة أنواعٍ‏:‏

أ - ما أمر الشّرع بكتمانه‏.‏

ب - ما طلب صاحبه كتمانه‏.‏

ج - ما من شأنه الكتمان واطّلع عليه بسبب الخلطة أو المهنة‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ ما أمر الشّرع بكتمانه

6 - من الأمور ما يحظر الشّرع إفشاءه لمصلحةٍ دينيّةٍ أو دنيويّةٍ حسب ما يترتّب على إفشائه من ضررٍ‏.‏ فممّا لا يجوز إفشاؤه‏:‏

ما يجري بين الزّوجين حال الوقاع، فإنّ إفشاء ما يقع بين الرّجل وزوجته حال الجماع أو ما يتّصل بذلك حرامٌ منهيٌّ عنه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ من شرّ النّاس عند اللّه منزلةً يوم القيامة الرّجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثمّ ينشر سرّها» والمراد من نشر السّرّ، ذكر ما يقع بين الرّجل وامرأته من أمور الوقاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة من قولٍ أو فعلٍ ونحو ذلك‏.‏

أمّا مجرّد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجةٍ، فذكره مكروهٌ، لأنّه ينافي المروءة، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»‏.‏ فإن دعت إلى ذكره حاجةٌ، وترتّبت عليه فائدةٌ فهو مباحٌ‏.‏ كما لو ادّعت الزّوجة على زوجها أنّه عنّينٌ، أو معرضٌ عنها، أو تدّعي عليه العجز، فإن لم يكن ما ادّعته صحيحاً فلا كراهة في الذّكر، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّي لأفعل ذلك، أنا وهذه، ثمّ نغتسل» وقال لأبي طلحة‏:‏ «أعرّستم اللّيلة» ‏؟‏ والمرأة كالرّجل في عدم جواز إفشاء ما يجري من الرّجال حال الوقاع‏.‏

وإفشاء السّرّ منهيٌّ عنه لما فيه من الإيذاء والتّهاون بحقّ أصحاب السّرّ من الجيران والأصدقاء ونحوهم‏.‏ فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا حدّث الرّجل الحديث ثمّ التفت فهي أمانةٌ» وقال‏:‏ «الحديث بينكم أمانةٌ»‏.‏ وقال الحسن‏(‏إنّ من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك‏)‏‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ ما طلب صاحبه كتمانه

7 - ما استكتمك إيّاه الغير وائتمنك عليه، فلا يجوز بثّه وإفشاؤه للغير، حتّى أخصّ أصدقاء صاحب السّرّ، فلا يكشف شيئاً منه ولو بعد القطيعة بين من أسرّ ومن أسرّ إليه، فإنّ ذلك من لؤم الطّبع وخبث الباطن‏.‏

وهذا إذا التزمت بالكتمان، أمّا إذا لم تلتزم، فلا يجب الكتمان، ويدلّ لذلك حديث زينب امرأة ابن مسعودٍ ونصّه‏:‏ عن زينب امرأة عبد اللّه قالت‏:‏ «كنت في المسجد، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تصدّقن ولو من حليّكنّ»‏.‏ «وكانت زينب تنفق على عبد اللّه وأيتامٍ في حجرها‏.‏ فقالت لعبد اللّه‏:‏ سل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيجزي عنّي أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصّدقة ‏؟‏ فقال‏:‏ سلي أنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فانطلقت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأةً من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمرّ علينا بلالٌ فقلنا‏:‏ سل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أيجزي عنّي أن أنفق على زوجي وأيتامٍ لي في حجري‏.‏ وقلنا‏:‏ لا تخبر بنا‏.‏ فدخل فسأله، فقال‏:‏ من هما ‏؟‏ قال‏:‏ زينب‏.‏ قال‏:‏ أيّ الزّيانب ‏؟‏ قال‏:‏ امرأة عبد اللّه‏.‏ قال‏:‏ نعم، ولها أجران‏:‏ أجر القرابة وأجر الصّدقة»‏.‏ قال القرطبيّ - فيما نقله ابن حجرٍ في فتح الباري -‏:‏ ‏"‏ ليس إخبار بلالٍ باسم المرأتين بعد أن استكتمتاه بإذاعة سرٍّ ولا كشف أمانةٍ، لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّهما لم تلزماه بذلك، وإنّما علم أنّهما رأتا أن لا ضرورة تحوج إلى كتمانهما‏.‏

ثانيهما‏:‏ أنّه أخبر بذلك جواباً لسؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكون إجابته أوجب من التّمسّك بما أمرتاه به من الكتمان‏.‏

وهذا كلّه بناءً على أنّه التزم لهما بذلك‏.‏ ويحتمل أن تكونا سألتاه ‏(‏أي ولم يلتزم لهما بالكتمان‏)‏ ولا يجب إسعاف كلّ سائلٍ‏.‏ وقد تتضمّن الغيبة إفشاءً للسّرّ فيما إذا كان الأمر المكروه الّذي يذكر به الغير في غيابه من الأمور الخفيّة، أو ممّا يطلب صاحبه كتمانه، وقد نهى الشّرع عن الغيبة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه‏}‏ وفي الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتدرون ما الغيبة ‏؟‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ذكرك أخاك بما يكره‏.‏ قال‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول‏.‏ قال‏:‏ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهتّه» وتفصيله في مصطلح ‏(‏غيبةٌ‏)‏‏.‏

النّوع الثّالث

8 - ما اطّلع عليه صاحبه بمقتضى المهنة، كالطّبيب والمفتي وأمين السّرّ وغيرهم‏.‏

9 - وممّا يكون أحياناً من الإفشاء المحرّم للسّرّ النّميمة‏:‏ وهي لغةً تبليغ الخبر على وجه الإفساد، وهي كذلك في اصطلاح العلماء، وأكثر إطلاقها على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه، أي ينقله إليه إذا كان سرّاً قد استكتمه إيّاه، كأن يقول فلانٌ يقول فيك‏:‏ كذا وكذا‏.‏ والنّميمة حرامٌ منهيٌّ عنها، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يدخل الجنّة قتّاتٌ» أي النّمّام، ولما فيها من الإفساد بين النّاس‏.‏ وقد تجب النّميمة كما إذا سمع إنسانٌ شخصاً يتحدّث بإرادة إيذاء إنسانٍ ظلماً وعدواناً، فيجب على من سمع أن يحذّر المقصود بالإيذاء، فإن أمكن تحذيره بغير ذكر من سمع منه فيقتصر على التّحذير، وإلاّ ذكره باسمه‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏نميمةٌ‏)‏‏.‏

ما يجوز فيه السّتر والإفشاء، والسّتر أفضل

10 - نصّ فقهاء المذاهب على أنّه يجوز في الحدود الشّهادة والسّتر، لكنّ السّتر أفضل فيما كان حقّاً للّه عزّ وجلّ، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ستر مسلماً ستره اللّه يوم القيامة» وبقوله عليه الصلاة والسلام «لو سترته بثوبك كان خيراً لك»‏.‏ واستثنوا من ذلك المتهتّك الّذي لا يبالي بإتيان المحظورات ولا يتألّم لذكره بالمعاصي‏.‏ وقال الفقهاء‏:‏ يقول الشّاهد على السّرقة‏:‏ أخذ، لا سرق، إحياءً للحقّ ورعايةً للسّتر‏.‏ وإذا طعن في الشّهود يجوز أن يسأل عنهم القاضي جهراً أو سرّاً على المفتى به عند الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الشّاهد مخيّرٌ في الرّفع إلى القاضي أو التّرك، إلاّ في الحدود فالتّرك فيها أولى، لما فيه من السّتر المطلوب في غير المتجاهر بفسقه، وأمّا المجاهر فيرفع أمره‏.‏ وكون التّرك مندوباً هو قولٌ لبعض المالكيّة، وفي الموّاق‏:‏ ستر الإنسان على نفسه وعلى غيره واجبٌ، وحينئذٍ يكون ترك الرّفع واجباً‏.‏

وقال صاحب الطّريقة المحمّديّة من الحنفيّة‏:‏ ما وقع في مجلسٍ ممّا يكره إفشاؤه إن لم يخالف الشّرع يجب كتمانه‏.‏ وإن خالف الشّرع، فإن كان حقّاً للّه تعالى، ولم يتعلّق به حكمٌ شرعيٌّ، كالحدّ والتّعزير فكذلك، وإن تعلّق به حكمٌ شرعيٌّ فلك الخيار، والسّتر أفضل كالزّنا وشرب الخمر‏.‏ وإن كان حقّ العبد، فإن تعلّق به ضررٌ لأحدٍ ماليٌّ لا بدنيٌّ، أو حكمٌ شرعيٌّ كالقصاص والتّضمين، فعليك الإعلام إن جهل، والشّهادة إن طلب، وإلاّ فالكتم‏.‏

استعمال المعاريض لتجنّب إفشاء السّرّ

11 - المعاريض في الكلام هي التّورية بالشّيء عن الشّيء‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب»‏.‏ وقال عمر بن الخطّاب‏:‏ أما في المعاريض ما يكفي الرّجل عن الكذب ‏؟‏ وروي ذلك عن ابن عبّاسٍ وغيره‏.‏ وهذا إذا اضطرّ الإنسان إلى الكذب لتجنّب إفشاء السّرّ، وتفصيله في مصطلح ‏(‏توريةٌ‏)‏ ‏(‏وتعريضٌ‏)‏‏.‏

وقال إمام زاده من الحنفيّة‏:‏ ويعدّ الحديث الّذي حدّثه به أخوه أمانةً، ولا يفشيها لغيره إلاّ بإذنه، وإذا حدّث به أحداً أدّاه على أحسن وجهٍ، واختار أجود ما سمع‏.‏

تجنّب الإفشاء في الحرب

12 - كتمان أسرار جيش المسلمين عن العدوّ مطلوبٌ، لأنّ السّرّ قد يصل إلى العدوّ فيستفيد من ذلك‏.‏ ولذلك جاز الكذب في الحرب تجنّباً لإفشاء أسرار المسلمين للعدوّ‏.‏

ومن الكتمان ألاّ يذكر قائد الجيش لجنوده الوجه الّذي يريدون،«فقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوةً ورّى بغيرها»،أمّا السّعي للحصول على أسرار العدوّ فهو مطلوبٌ، لاتّقاء شرّه،«وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستطلع أخبار العدوّ»‏.‏